الاحتفال بحصول نجيب محفوظ على نوبل
الاحتفال بحصول نجيب محفوظ على نوبل


«بدرو مارتينيث».. المستعرب الذي كان عربيًا لا مستعربًا

أخبار الأدب

الأحد، 12 مارس 2023 - 01:44 م

سمحت لى ظروف الدراسة والعمل بالاقتراب من دنيا الاستعراب فى إسبانيا، ما جعلنى أشعر باختفاء المسافات بينى وبين كثيرين من أعضائه، إذ كنا نتكلم لغة شبه موحدة أمام القضايا العربية التى كانت تتدفق على الساحة طوال سنى إقامتى فى إسبانيا. بيد أن أحدهم احتل رأس قائمة الذين جذبونى إليهم منذ أن وطأت قدماى أرض جامعة مدريد أوتوما التى كان يرأسها، وهو المستعرب العظيم بدرو مارتينيث مونتابيث الذى لجأت إليه فى أيامى الأولى كونه رئيس الجامعة ومحبًا لأرض الكنانة التى عاش فيها سنوات وأتقن لهجة أهلها وفهم روحهم. توطدت علاقتى الإنسانية والأكاديمية به منذ أن تعرفت إليه فى مكتبه إلى أن ترجل إلى السماء فكان رحيله مؤلمًا فوق ما كنت أتصور.

تربع بدرو على عرش الاستعراب الإسبانى المعاصر عقودًا، ليصبح اسمه علامة فارقة فى تاريخ هذا الفرع من المعرفة الإنسانية، ويحتل مكانه بين عظامه وعلى رأسهم القس آسين بلاثيوس صاحب مأثرة اكتشاف تأثير الإسلام فى ملحمة دانتي، الكوميديا الإلهية.

وإذا كان لبدرو مأثرة فإنها تكمن فى تأسيسه الاستعراب الإسبانى المعاصر، بعد أن كان هذا الفرع المعرفى مقصورًا على الحقبة الأندلسية، وكأن العالم العربى بزخمه الأدبى والسياسى والاجتماعى لا وجود له.

وحرى أن نشير إلى أن الاستشراق عمومًا مرتبط فى المِخْيال العربى والإسلامى بالاستخبارات والتآمر الغربي، لما لهذا الاختصاص المعرفى من صلة وثيقة بهما خلال فترات تطوره.

وفعندما نسمع كلمة استشراق أو استعراب تنتابنا ريبة لا إرادية من هذه الرافدة البحثية والمعرفية، إذ كان ولا يزال بعضها يمهد الطريق أمام نشر النفوذ الغربى وامتداده واستمراره فى الشرق كله. إلا أن الشبهات التى تحوم حول الاستعراب الإسبانى أقل من غيره.

وإذا كانت الأندلس ظاهرة فريدة فى تاريخ البشرية فإن الاستعراب الإسبانى يمثل ظاهرة غريبة أخرى بين حركات الاستشراق الغربية، إذ لم يخرج من رحم الاستعمار وتعبيد دروبه للسيطرة على العالمين العربى والإسلامي. وباستثناء حالتين معروفتين، من القرن التاسع عشر، فإن المستعربين الإسبان تاريخيًا انكبوا على البحث والتنقيب فى التراث المشترك بيننا، الأندلس، زمردة تاج الحضارة الإنسانية.

 

ويطلق على الاستشراق فى إسبانيا مسمى الاستعراب، نظرًا لانكفائه فى بحوثه ودراساته على المنتج العربى دون الإسلامي، على الأقل حتى الولوج فى القرن الحادى والعشرين إذ امتد ليشمل بعض بقاع العالم الإسلامى مع انفراج اهتمام الدوائر الرسمية بإلغاء المعهد الإسبانى العربى للثقافة وتحويله إلى معهد التعاون مع العالم العربى.

ومن ثم دمجه فى الوكالة الإسبانية للتعاون الدولى فى نهاية القرن العشرين، بعد أن ظل يضطلع بدور ثقافى كبير منذ تأسيسه فى خمسينيات القرن، بعد المعهد المصرى للدراسات الإسلامية فى مدريد بقليل.

ولا شك أن مصالح الدول تطغى على كل شيء وإن خالفت الأعراف الأكاديمية، ومن السذاجة أن نفكر أننا نتعامل مع مقرأة قرآن أو حسينية أو زاوية مغاربية، لكن المشكلة تكمن فى أن يرتدى المستشرق أو المستعرب رداءً جامعيًا ثم يضطلع بدور استخباراتي، فلكلٍ دوره، للأستاذ الجامعى خط وللمخبر مسار آخر.

وكلاهما متوازيان بحثًا عن المعرفة، لكنهما لا يلتقيان. وهناك حالات مخالفة فى المشرق والمغرب، وبعض من جمع بين الخطين كانت له مملكته رغم وصوله وتقدمه فى العمر. الحالات عديدة وبعضها معروف على ضفتى البحر المتوسط. إلا أن الذين آثروا المعرفة، دون الولوج فى عالم البالوعات، كثيرون ومعروفون.

وحول هذه المعضلة، أى اقتران الاستشراق فى بعض الفترات بالإمبريالية أو اتهامه بالتحالف مع الحركات الاستعمارية الغربية، وما إذا كان ينسحب على الاستعراب الإسباني، ينفى المستعرب والمترجم فدريكو أربوس، تلميذ بدرو، هذه الصفة عن الاستعراب الإسبانى المعاصر بقوله: "على الأقل منذ الثلث الأول من القرن العشرين، فمنذ نشأة الدراسات العربية والاستشراقية فى إسبانيا فى القرن الثامن عشر.

وكانت لها علاقة إلى حد ما بسياسة الملك كارلوس الثالث تجاه شمال إفريقيا وتجاه المستعمرات الإسبانية القديمة فى المحيط الهادئ. كذلك فى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين خلال الحماية الإسبانية فى المغرب، لأن أغلبية اهتمامات الاستعراب الإسبانى آنذاك كانت تنحصر فى الأندلس أو فى المغرب.

 

 

ولكن فى الواقع اتبعت هذه الدراسات مسارًا تاريخيًا لا يمكن الجزم بأنه كان متأثرًا بالسياسة الملكية منذ قيام الجمهورية الإسبانية فى ثلاثينيات القرن العشرين وبعدها منذ الأربعينيات نجد أن الاستعراب الإسبانى يعتمد أساسًا على البحث والدراسة ويبعد كل البعد عن الحركة الاستعمارية".

وفي ظل الاستعراب الإسبانى حبيس الحقبة الأندلسية، الأكثر ثراءً وإثارة للجدل بين ضفتى البحر المتوسط، ثم غُرست بذرة تحرره فى عشرينيات القرن العشرين عندما وصل إلى القاهرة مستعرب شاب سنتئذ هو إميليو غارثيا غوميث ليدرس العربية فتعرف إلى بعض رموز الثقافة المصرية حينئذ، من بينهم: الدكتور طه حسين وأحمد زكى باشا الذى فتح له خزائن مكتبته وساعده فى ترجمة قصائد من الشعر الأندلسى أصدرها لاحقًا فى كتاب "قصائد عربية أندلسية".

والذى كان له تأثيره على جيل كامل من شعراء إسبانيا، هو جيل 27، وكان بين أعضائه: فدريكو غارثيا لوركا ورفائيل ألبرتى وبيثنتى أليكساندري، حائز نوبل الآداب عام 1977. ثم ألحق كتابه هذا بترجمات من الأدب العربى المعاصر، كان أبرزها: "يوميات نائب فى الأرياف" لتوفيق الحكيم و"الأيام" لطه حسين، فكانا فاتحة طريق ترجمة الأدب العربى المعاصر. فتحت ترجمات غارثيا غوميث هذه أعين طلابه على وجود أدب معاصر لدى العرب ولا يقتصر نتاجهم على الحقبة الأندلسية، فسار بعضهم على خطاه بدءًا بالدراسة فى القاهرة وزيارة عواصم عربية أخرى، وبرز بينهم: المستعرب الأبرز بدرو مارتينيث مونتابيث وواضع القواميس فدريكو كورينتي.

وكانت تلك الزيارة نتائجها نقطة مضيئة فتحت أعين تلاميذ إميليو غارثيا غوميث على المشرق العربي، وكان على رأسهم بدرو مارتينيث مونتابيث، آخر القامات السامقة فى عالم الاستعراب الإسبانى الذى ترجل إلى السماء فى الرابع عشر من فبراير 2023.

ووضع بدرو، بذرة هذه المدرسة الحديثة فنمت وكبرت وصار لها فروع فى جامعات ومؤسسات إسبانيا البحثية المتخصصة. ويبدو أنه كان منذ مولده على موعد مع هذا المستقبل، فقد ولد سنة 1933 فى قرية تحمل اسمًا عربيًا من أصل فارسي، هى شوذر Jodar، فى محافظة خايين، أو جيان العربية فى إقليم الأندلس، جنوبى إسبانيا. إضافة إلى هذا فلا يكاد يكون قد درس فى إسبانيا فى فروع الإنسانيات طالب عربى إلا وعرّج على مكتبه وشخصه واغترف من معارفه وتوجيهاته الأكاديمية.

وكان مذ تعرفت إليه فى مطلع الثمانينيات، قلقًا على العالم العربى وظل هكذا إلى أن رحل عن عالمنا، فهذه البقعة من الجغرافية العالمية لم يتحسن وضعها بل يزداد تدهورًا بأيدى أبنائه وأيادٍ خارجية تعبث بها من الغرب منذ زمن الإمبراطورية البيزنطية إلى اليوم.

ووجدت فيه حنينًا للفترة التى عاشها فى مصر، فترة التجربة الناصرية، نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، حيث شغل منصب مدير المركز الثقافى الإسبانى ودرّس فى كلية الألسن، مدرسة الألسن العليا سنتئذ، ومن يومها آمن بتلك التجربة القومية وأن خلاص العرب فى أيديهم، فى وحدتهم.

وفي ظل يحمل تلك القاهرة بزخمها القومى العربى فى داخله إلى أن رحل، مؤمنًا بفكرة الوحدة العربية وأن الغرب يستخف بالعرب بسبب الحكام وافتقار العالم العربى إلى الحرية والديمقراطية.

ومن ثم خرج من عبائته عشرات المستعربين الإسبان والأمريكيين اللاتينيين ودارسى الثقافة الإسبانية العرب فى قسم اللغة العربية فى جامعة مدريد أوتونوما، القسم الذى أنشأه فى سبعينيات القرن العشرين، وظل يحنو عليه برئاسته أكثر من عقدين، وضحى من أجله بمنصب رئيس الجامعة ليعود إليه، إلى طلابه وبحوثه.

وكان قد انتقل من رئاسة هذا الوليد العزيز إلى رئاسة جامعة مدريد أوتونوما، ليصبح أول رئيس جامعة يُنتخب ديمقراطيًا، وهو المنصب الذى آثر عليه العودة إلى دروسه وطلابه إذ استقال منه عام 1982، ثم واصل رئاسة القسم لسنوات طويلة ليصبح أستاذًا متفرغًا.

 

 

وقد تعرفت إليه شخصيًا بينما كان رئيسًا لجامعة مدريد حينئذ حيث ذهبت أشكو له من رئيس قسم اللغة الإسبانية فى الجامعة نفسها إذ حملنى خمس وعشرين مادة للمعادلة. كان قد سبق لى أن عرفته من خلال كتاب للغة الإسبانية وضعه مع كل من الدكتور لطفى عبد البديع والمستعرب خواكين بالبيه. وكانوا قد أخبرونى أنه عاش فى مصر التى يعشقها، إلا أن موقفه من معاهدة كامب ديفيد قطع أواصر العلاقة مع مصر ممثلة فى السفارة فى مدريد.

ولا أزال أتذكر صورة أول لقاء حيث كان ممسكًا برسالة فى يده، وطلب منى ألا أناديه بلقبه العلمي، دكتور، مما استوقفني، حيث جئت من بيئة جامعية تنادى المعيد بالدكتور. ذهبت إليه أشكو من رئيس قسم فقه اللغة الإسبانية حينها، فرانثيكو ماركوس مارين، الذى حملنى 23 مادة للمعادلة، من إجمالى 25 مادة هى مواد سنوات الليسانس.

وأحسن استقبالى دون حميمية إذ غلبت الدبلوماسية على اللقاء فأجواء معاهدة كامب ديفيد ومقتل السادات خيمت عليه جراء صدام للسفارة معه بعد أن خرج فى التليفزيون الإسبانى يقول إن مصر بمقتل السادات ستعود إلى لعب دورها الريادى فى الوطن العربي، فقامت الدنيا ولم تقعد! تحدثنا قليلاً عن كلية الألسن.

والتى أسس فيها قسم اللغة الإسبانية ودرّس فيه. ومن منطلق درايته بمستوى مناهجها البدائية فى تلك الأثناء نصحنى بأن أواصل دراسة مواد المعادلة كلها للارتفاع بمستواى العلمي، فمواد الألسن هشة! عملت بنصيحته فلم أنتقل إلى جامعة مدريد كومبلوتنسى التى كانت تسهل الدراسة للأجانب بموجب مرسوم ملكى جديد صدر سنتئذ، وخيرًا فعلت. ثم التقينا فى حلقة دكتوراه مشتركة بين قسم فقه الإسبانية وقسم الدراسات العربية والإسلامية.

وكانت عن أدب توفيق الحكيم، ركز فيها على التعادلية التى طرحها الحكيم، دون أن ينسى التعريج على وسطية المصريين. كلنا أدلى بدلوه فى هذا الصدد انطلاقًا من دور النيل وطبيعة الأرض والزراعة فى أرض الكنانة.

وبرغم علمه الغزير وثقافته الواسعة، إلى جانب أنه مفوه، كان ينصت إلى الطلاب العرب بغية الاستزادة وفهم العالم العربي، المستغلق فى بعض جوانبه، العالم الذى يعشقه.

 

 

وكان بدرو مارتينيث مونتابيث المرجع الأول لحركة الاستعراب المعاصر فى إسبانيا، وأبرز المناصرين للعرب وقضاياهم، على كافة المستويات. فقد ظل عقودًا الناطق المتطوع بلسان حالهم، ليخاطب أبناء جلدته بلغتهم، فى محاولة لتفهم العرب وثقافتهم.

وإلا أنه كان وضعًا غير مريح، فكثيرًا ما تسبب له فى إزعاج، كان فى غنى عنه كأستاذ جامعة. والغريب فى الأمر أن بعض العرب عاداه، إما حسدًا أو رغبة فى كسب تأييده واستمالته. وهنا يحضرنى موقف حدث له مع بائع الصحف فى كشك يقع فى ساحة بويرتا ديل صول، من حيث كان يشترى الصحف والمجلات العربية.

وذات صباح سأله صاحب الكشك: "هل هناك من جدوى من شراء صحف ومجلات هذه الشعوب الغريبة؟". انبرى فى شرح الأمور والحديث عن هذه "الشعوب" المغلوبة على أمرها، ماضيها وحاضرها.

وكان من أوائل من ألحوا على تسمية الاستشراق بالاستعراب، نظرًا للتباين بين العلم الذى يدرس الشرق كله والآخر المتخصص فى دراسة العالم العربي. وبذلك فتح المجال أمام دراسة وترجمة الثقافة العربية منذ الستينيات، فقرأ أعمال نجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور وتوفيق الحكيم، وعبد الوهاب البياتى وبدر شاكر السياب، ونزار قبانى وسليم بركات، وأدونيس، ومحمود درويش، وعبد الله القرشي، بين آخرين.

وقد عرفه طلاب الدراسات العليا العرب جلهم الذين تخرجوا فى جامعات إسبانيا، فهو مرجعهم الأول ومذلل مشكلاتهم العلمية والجامعية طوال عقود. وعرفه الإٍسبان خارج الجامعة من خلال مناظراته التلفيزيونية حول العرب وقضاياهم ومقالاته الصحافية حول عالمنا.

ومن خلال مسيرته الطويلة فى هذا الحقل المعرفى حافظ على مواقفه، فلم يفت فى عضده التقلبات ولا الاغراءات، ولم يتحول إلى الضد كما فعل البعض من تلامذته وزملائه، إذ تحول أحدهم إلى مناهض لما هو عربى وإسلامى من خلال مؤسساتٍ يمينية وصهيونية تسانده.

وبدأت علاقته بالوطن العربى من خلال دراسة العربية وآدابها فى جامعة مدريد المركزية، فأثارت اهتمامه، ليس فقط على المستوى اللغوى بل القضايا الثقافية. ويعترف بأنه كان محظوظًا بأن تعلمها على يد مستعرب كبير آخر، الراحل إميليو غارثيا غوميث، الذى أسره بشخصيته الجذابة التى كانت تفوق الوصف فسحره فى الكثير من الجوانب: "ربما كان طابعى كأندلسى المولد له دور فى هذا الأمر".

وكان عالمنا العربى يشغله دائمًا، إذ مارس استعرابًا حيويًا، أى أنه لم يقتصر على الجوانب العلمية، بل امتد ليشمل الجوانب الإنسانية والاجتماعية. ورغم قلقه فإنه كان يرى أننا، أبناء يعرب، لسنا ذوى طبيعة معقدة، يصعب التعامل معها، كما يدّعى البعض فى الغرب: " العرب ليسوا أكثر تعقيدًا أو صعوبة من الشعوب الغربية.

 

 

وكل ما هنالك ببساطة، أنهم مختلفون عنا. وأمام هذا الوضع علينا أن نحاول فهم الآخر، المختلف، ويمكن فهمه انطلاقًا منه، على ما هو عليه، وليس على أساس مفاهيمنا ومعاييرنا. وإذا حاولت تفسير الآخر على أساس مبادئك وأفكارك، فلن تحصد سوى الفشل. أى أنه إذا لم تفهم الآخر من داخله، من أعماقه، كما هو، فلن تفهمه إطلاقًا".

وعن عدوانية الغرب تجاه العرب يؤكد أن: "غربيين كثيرين لا يفرقون بين معنى مسلم ومعنى عربي. وفى إسبانيا على وجه التحديد، يُستخدم لفظ moro، وهو لغويًا يعنى مسلمًا ولكنه يستخدم للتحقير لكل ما هو عربى وما هو مسلم.

والعدوانية تقف وراءها أسباب عدة، فتاريخيًا نجد أنها أسباب فريدة تضرب بجذورها فى التاريخ، وتقوم على أساس أقوال مطروقة، ولم يُرد عليها ولم تتم مضاهاتها. إنها أسباب معاصرة وقوية، من بينها أن الغرب لايزال يرى فى العالم العربى منطقة يملكها، منطقة احتلال.

وبما أن الاحتلال السياسى صعب، يلجأ إلى أساليب اقتصادية للتوصل إلى امتلاكه، أى احتلاله بأساليب غير مباشرة، والعمل على اخضاعه بكافة السبل. إلا أن أحد هذه الأسباب يكمن فى العرب أنفسهم، إذ لا يعرفون كيف يقدمون أنفسهم، ولا يعرفون الآخرين.

وقد يوجد خطأ كبير فى الاتصال، فوسائل الإعلام الغربية، باستثناء حالات معينة، ليست مستعدة بما فيه الكفاية للتعريف بالعرب، ووسائل الإعلام العربية ليست مجهزة لمعرفة الغرب، والتعريف بالعرب أنفسهم".

وكثيرًا ما يرتبط الاستشراق أو الاستعراب فى أذهاننا بالاستعمار، إذ نشأ فى كنفه، إلا أن الاستعراب الإسبانى مختلف، ويبرر مارتينيث مونتابيث ذلك "بأن الاستعراب الإسبانى كان قائمًا ومحصورًا فى الدراسات الأندلسية، فكل ما كتب فى الماضى كان حول الحضارة الأندلسية التى نعدها حضارتنا، وهذا لا يعنى أنها ليست عربية، فهى جزء من التاريخ العربى الإسلامي، يتقاسمه الإٍسبان مع العرب، وبقدر ما تنتمى إليكم تنتمى إلينا نحن الإٍسبان.

وعلى ضوء ذلك، سلك الاستعراب الإسبانى طريقًا مختلفا، فلم يكن كحركات الاستعراب الغربية، ملتزمًا بالقضايا السياسية، كان مسيسًا بدرجة أقل من الحركات الأخرى. أى أنه كان أقل ارتباطًا وخدمة للأطروحات والمصالح الاستعمارية، على عكس ما حدث فى دول أخرى. ويرى أن هذا الاتهام لا ينطبق على الاستعراب الإسباني.

ولكن هذا لا يمنع أن جزءًا منه مخترق من قبل بعض المؤسسات السياسية، وقد يكون هؤلاء المستعربون على وعى أو دونه بأنهم يقومون بنشاطات تخدم هذه المؤسسات الحكومية، ولا داعى لذكر أسماء أو حالات. عندما تتدخل السياسة بشكل مشين فإنها تقلص حرية هذا المفكر".

وحرى أن نذكر أن الاستعراب الإسبانى رغم تخصصه فى غالبيته فى الدراسات الأندلسية، فإنه لم يحظ بالدرجة نفسها من العالمية التى نالتها حركات استشراق أوروبية أخرى، إذ نجد، على سبيل المثال، أن مستشرقًا مثل: لوى ماسينيون أو جاك بيرك وغيرهما قد نالوا شهرة عالمية، الأمر الذى يفتقر اليه الاستعراب الإسباني. وهو أمر مؤسف رغم نزاهة الاستعراب الإسبانى فى مجمله. هناك عدة أسباب، أولها: ذو طابع عام، خاص بالثقافة الإسبانية المعاصرة، إذ لم تنتشر دوليًا وعالميًا.

ونظرًا لأن إسبانيا ظلت ردحًا من الزمان معزولة، إلى حد كبير، عن الثقافة العالمية. إضافةً إلى أن اللغة الإسبانية، رغم أنها إحدى اللغات الأكثر أهمية فى العالم من حيث عدد المتحدثين بها والدول التى تستخدمها، مما يجعلها لغة عالمية، فإنها ليست معروفة بدرجة كبيرة دوليًا، وبشكل خاص فى العالم العربي، فوصولها إليه جاء فى مرحلة متأخرة. وحتى تلك اللحظة لم تكن منتشرة، ومعها الثقافة الإسبانية، بالشكل المطلوب.

ويسُتثنَى من هذا المغرب الذى يمثل حالة خاصة. أضف إلى ذلك أن العالم العربى لا يزال يتبع، وبشكل مخيف، لغتين وثقافتين بعينهما، الإنجليزية والفرنسية، لسبب تاريخي، الاستعمار الفرنسى والإنجليزى لغالبية العالم العربي.

وفي هذا الوقت الذى لم تدرك إسبانيا بعد أن الوسيلة الرئيسة، على المستوى الدولي، هى اللغة، وهى ضرورية فى اتصالها بالعالم الخارجي، كما أن الإسبانية لم تكن لغة استعمار فى العالم العربي. إسبانيا لم تحسن بعد استغلال ثقافتها ولغتها مثلما فعلت فرنسا، وهنا يجب الاعتراف بأن الفرنسيين أساتذة فى هذا المجال فى نشر ثقافتهم ولغتهم.

 أفكار بدرو مارتينيث مونتابيث عن عالم الاستعراب الإسبانى التقليدى والمعاصر واضحة، ورؤيته ثاقبه فى هذا الصدد. وهو من المثقفين الاسبان الذين يرون أن الأندلس تنتمى إلى الثقافتين، العربية الإسلامية والغربية.

وأما عن حضور الأندلس فى الثقافة الإسبانية المعاصرة فكان له رأى واضح إذ يقول:" أعتقد أن الأندلس كانت دائمة الحضور فى الثقافة المعاصرة بشكل مختلف ومتنوع، حسب كل كاتب وحسب رؤى ما هو إسبانى فى كل كاتب، فإذا قرأت كاتبًا إسبانيًا شغوفًا بمعالجة قضية تغريب إسبانيا، أو البحث عن طابعها الغربي، ستجد أنه لا يعالج موضوع الأندلس، إذ أنه يبحث عن وهم الهوية الغربية لهذا البلد.

وأما إذا أخذت أعمال كاتب ذى نظرة عالمية، أكثر شمولًا واتساعًا وتعددية لما هى إسبانيا وثقافتها، فستجد أن الأندلس حاضرة دائمًا. المثال الواضح على الملاحظة الأخيرة يكمن فى حالة الكاتب الراحل خوان غويتيصولو.

وهناك كتاب آخرون، يمثلون الأدب الإسبانى المعاصر ويعالجون هذا الأمر فى كتاباتهم، منهم: فرناندو سانشيث دراغو. الفارق إذن يكمن فى الاختلاف فى وجهات النظر والأفكار بين كاتب وآخر. فى الوقت الراهن يرون ما هو عربى من خلال ما هو أندلسي.

وفى الأدب العربى "نجد أن الأندلس كانت ولا تزال موضع ألم، درسًا، وتجربة أليمة، ابتداء من أحمد شوقى إلى نزار قباني، وأدونيس. الأندلس تصاحبكم، أنتم العرب، بشكل دائم، من الناحية التاريخية والمعاصرة.

وإنها مصدر قلق على المصير العربي، فوضع العرب الحالى يجعل من الأندلس محورًا لتذكر أكثر فترات الحضارة العربية ازدهارًا، وفى الوقت نفسه ذكرى أليمة ومريرة، وهو ما تحمله الأندلس من معنى. إنه وضع يميز الأدب العربى المعاصر عن الأدب الإسباني، إذ أنكم تتعاملون مع هذا العنصر من جانبيه، العظيم والأليم."

وعن استقبال القارئ الإسبانى للأدب العربى قال مارتينيث مونتابيث: "كما تعلم حدثت طفرة فى ترجمة وانتشار الأدب العربى بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب، فحتى تلك السنة كانت الأعمال الأدبية المترجمة تواجه صعوبات فى الانتشار بين الإسبان.

وإلا أنه قبل: نوبل محفوظ كانت قد ترجمت أعمال، وعامة بشكل جيد، لكتاب مثل توفيق الحكيم، وطه حسين، وعبد الوهاب البياتي، ونزار قباني، وأدونيس، ومحمود درويش. وابتداء من فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل تحولت الترجمة إلى ثقافة عامة واجتماعية، اذ بدأت الترجمات تنتشر، ليس لأعمال محفوظ فقط، بل لأعمال كتاب آخرين، فكثر الكم بشكل ملحوظ وهو ما دعانى إلى التفكير فى جودة هذه الترجمات، ففى الكثير من الحالات اختيرت النصوص على عجل.

ولم تنق، تماشيًا مع لغة السوق. كل هذا فى غياب خطة أو برنامج لترجمة الكتب العربية، تختص به المؤسسات التى تهتم بالعالم العربي، وهو ما تفتقر اليه الدراسات العربية بشكل عام. هناك كثير من الدخلاء على هذا العمل، أشخاص يكتبون عن الأدب العربى دون أدنى إعداد مهنى فى هذا المجال، فيكتبون آراء وتعليقات بها تجاسر وغير متسقة مع النص. على أية حال فإننى أرى الوضع مطمئنا، ويدعو إلى التفاؤل إذا تمكنا من تلافى هذه العيوب والأخطاء، خاصة أن الأدب العربى المعاصر ثري.

وفى بعض الحالات صعب ومعقد، إذ كُتِب فى جو يفتقر إلى حرية التعبير، وهو ما يجب أخذه فى الحسبان عند ترجمته ونقده. ورغم هذه الصعوبات فإن هذا الأدب يستحق مزيدًا من الانتشار والعالمية، وهو ما تحاوله إسبانيا."

وبعيدًا عن الخطاب السياسى الأجوف عند الحديث عن العلاقات التاريخية والصداقة بين إسبانيا والعالم العربي، كان لبدرو مارتينيث مونتابيث رأى فى حقيقة هذه العلاقات: "هذا حبكة سياسية، لها أهداف معينة، وهو الغزو الاقتصادى وإدخال رسائل أيديولوجية.

وإلا أنه من حين لآخر تدرج الثقافة فى هذا الإطار السياسى البحت. السياسيون قليلو الاحترام للثقافة، فى كل مكان، بما فى ذلك إسبانيا والعالم العربي، وعلينا الاعتراف بأن هذا خطأ. يجب التعامل مع الثقافة بما يليق بها من احترام وكرامة، فلا يمكن اعتبارها القريبة الفقيرة أو الخادمة للسياسة، ولا يمكن ترويضها ووضعها فى خدمة السياسة بطريقة رخيصة ومزرية".

وفى عام 1997 أعددت ملفًا ثريًا حوله بقلم أصدقائه من العالم العربى وإسبانيا وأمريكا اللاتينية ونشره الراحل جمال الغيطانى فى "أخبار الأدب". وكان من بين من شاركوا فى هذا الملحق: نزار قباني، صلاح فضل، كارمن رويث برابو، الشاعر خوسيه يرّو، الفيلسوف كارلوس باريس، إلخ. كان نزار قبانى ممن استكتبت عن المكرم، وجرت بيننا مراسلات جميلة عبر الفاكس لا أزال أحتفظ ببعضها بعد ربع القرن، وقد عنون مقاله عن بدرو بكلمات ثاقبة "كان عربيًا، لا مستعربًا".

عندما التقينا لأسلمه نسخة من الجريدة التى نشرت صورة كاريكاتورية له ضحك وقال يبدو إن الرسام ظن أننى شامي، فاستلهم ملامح شامية فى وجهي، فبادلته المزحة بأخرى قائلًا: "ربما لأن أصولك أموية"، فهو من بلدة قريبة من غرناطة.

وعاش بدرو خمس سنوات فى القاهرة الناصرية وسكنته مصر إلى أن رحل، ظل يعشقها ويجيد لهجتها تمامًا، ومن خلالها ظل يراوده حلم وحدة العرب، ويرى فيها مرآةً للمنطقة، فكانت البلورة السحرية التى رأى منها العالم العربي. وقد بادله المصريون بحب واحترام كبيرين تمثل فى وقائع تكريم، لعل آخرها كان التكريم الذى أقامه له معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته عام 2021 حيث عقد لقاءً فكريًا شارك وتكلم فيه عن قضايا كثيرة لعل أبرزها: فترة عمله فى القاهرة وذكرياته عنها وشارك فيه كذلك الدكتور الراحل أحمد مرسي، أستاذ الأدب الشعبي، والمستعربة كارمن رويث برابو وأدار اللقاء كاتب هذه السطور.

وكان هذا المستعرب الجليل ينضح عروبةً ومصرية. كان مسكونًا بقضايانا، قلقًا على مستقبلنا، وحزينًا على أوضاعنا. الذكريات والمواقف التى عشتها عن قرب كثيرة، تستحق مساحةً أخرى لسردها. لقد سكنته مصر وقرّبها من طلابه عبر كل ما تملك من طاقات فى قسم يتصدر مدخل كلية الفلسفة فى جامعتنا.

اقرأ ايضاً | دراسة أكاديمية تناقش العلاقة بين الإعلام والمؤسسات الثقافية

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-3-12


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة